اعلم أن المتعلِّم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلًا ونهارًا، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.
* ومن الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل، و منهم من يعجز عن عشرين رطلًا، فكذلك القلوب، فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات؛ كما أن الشَّرِه يأكل فضل لقيمات فيكون سببًا إلى منع أكلات، والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيده في وقتين من النهار واللي ، ويُرَفِّه القُوى في بقية الزمان.
* والدوام أصل عظيم. فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ.
* وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا، وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع.
* ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطئ نهر؛ لأن ذلك يلهي، والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
* وللخلوة أصل، وجمع الهم أصل الأصول.
* وترفيه النفس من الإعادة يومًا في الأسبوع؛ ليثْبُت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة، كالبنيان يترك أيامًا حتى يستقر ثم يبني عليه.
* تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم.
* وألا يشرع في فن حتى يُحْكِم ما قبله.
* ومن لم يجد نشاطًا للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
* ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز، والعلم غزير، وإن أقوامًا يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنًا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع، ومن رُزِق يقظة دلَّته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دلَّه المقصود على الأحسن: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}[البقرة: 282]
المرجع: صيد الخاطر
للإمام: ابن الجوزي -رحمه الله-
منقول